LEXICARABIA

LEXICARABIA

Langue parlée et langue écrite

  اللغة المنطوقة واللغة المكتوبة

 

ترجمة: عبد الغفور البقالي

 

كما تقدم سابقا، إذا كانت اللغة المنطوقة لا تمثل إلا شكلاً خاصاً للتعبير لملكة الكلام، فهو بدون أدنى شك شكل أساسي ليس فحسب من وجهة نظر الجنس البشري، ولكن الفرد نفسه. حتى في مجتمعاتنا المدعوة "متقدمة" يبقى الكلام المنطوق إلى حد كبير وسيلة التواصل الأساسية. فنحن خاضعون إليها بصفة شبه مطلقة في الأعوام الأولى من حياتنا، وبفضلها نحقق في سنِّ الرشد ما هو أساسي في الاتصال مع الآخرين، وبالطبع مع أنفسنا.

 

تبقى الكتابة بصفتها وسيلة متفرعة عن التعبير اللغوي ابتكاراً حديثاً نسبياً في تاريخ الإنسانية، وتختص بها مجموعة محددة جداً من المجتمعات البشرية. وكما سنطّلِعُ عليه لاحقاً، يمكن أن نعتقد جليا أننا مبرمجين ككائنات بشرية لنصبح "مخلوقات القول" حسب تعبير كلود هاجيج (1985) C. Hagège، ولكن الثقافة تجعل منا "مخلوقات الكتابة".

 

وقد قدم ليبرمان(1992)   Liberman بعض المعايير ليبيّن كيف أن القول أكثر "طبيعية" من الكتابة كصيغة للتعبير عن الكلام.

وهذه بعض تلك المعايير:

1- إن القول عام بحيث لا وجود لمجتمع بشريّ معروف ليس له لغة منطوقة معدة بإحكام، غير أن معظمها لم يطور بعد نظاما كتابيا.

2- القول هو الأصل بالنسبة للجنس البشري أو الفرد.

3- إن سياق تعلم لغة منطوقة طبيعي و متعذر كبته تقريبا. ويكفي أن يلقى طفل في بيئة لغوية خاصة ليكتسب لغة تلك البيئة بصفة تلقائية ومنتظمة وسريعة بدون الاعتماد على طرق تربوية جلية. وبتباين واضح، فتعلم القراءة والكتابة هو حصيلة سياق تعلمي طويل ومعقد بحيث أن نجاحه للأسف غير محقق لمجموعة من الأطفال. فتعلم الكتابة والقراءة يمثل في حد ذاته عملية فكرية كبيرة بمقارنته باكتساب القول.

4- توجد استعدادات بيولوجية للقول لها علاقة بالبنى الدماغية (structures cérébrales) في أثناء التطور النوع البشري. وقد تستعمل القراءة والكتابة بعض هذه الموارد، وكذلك موارد أخرى، الغير المختصة في المرامي اللغوية. وبعبارة أخرى، ليس هناك تخصص للقراءة والكتابة كما يبدو.

 

         فقد دفعت هذه الاعتبارات، من بين أخريات، ليبرمان إلى التفكير أن القول هو بمثابة منتوج للتطور البيولوجي، ولكن ينبغي اعتبار نظم الكتابة على أنها "عوارض" (« artefacts »)، أي أدوات ثقافية. ويمثل ابتكار الكتابة، بدون أدنى شك، الاكتشاف الثقافي الأكثر أهمية بالنسبة للجنس البشريولكن يجب الاعتقاد أن هذا الاكتشاف ما هو إلا نتاج عبقرية النزر القليل من المجتمعات الإنسانية. وبعبارة أخرى، تعتبر أغلب نظم الكتابة ظاهرة خارج المنشأ (exogènes) بالنسبة للمجتمعات التي تستعملها.

        

واعتبارا لأسبقية الكلام المنطوق بالنسبة للكتابة، إن من المفارقة إذن أن نسجل الاهتمام الضئيل الذي أعطته المؤلفات العامة لعلم النفس واللسانيات الاجتماعية للكلام المنطوق مقارنة مع تلك التي انصبت على الكتابة. كيف يمكن إذن توضيح هذا اللاتجانس (dissymétrie) ؟

يستند في هذه الحالة إلى سببين اثنين:

         فالأول ذات طابع مادي بحيث أن تحليل الكلام المكتوب يتحقق بصعوبات تقنية ومنهجية أقل من تلك التي تتطلبها دراسة الكلام المنطوق. فتحليل الخاصيات الدقيقة لتسلسل الأحرف (séquence de lettres) لا يتطلب صعوبات، ولكن ليس الأمر كذلك بالنسبة لتحليل إشارة الكلام (signal de parole). وكان لزاما انتظار إعداد تقنيات متطورة لـترقيم(digitalisation)  هذه الإشارة حتى يتسنى تنويع خاصيتها المختلفة بطريقة الملاحظة.

 

         والسبب الثاني وهو الأكثر أهمية لأنه يعكس مسلّمة نظرية كانت إلى وقت بعيد تمثل إجماعا بالنسبة لعلماء النفس. ذلك أن دراسة إنتاج وإدراك الكلام يمكن إنجازها بغض النظر عن الكيفية الخاصة للتعبير. وحسب مؤيدي هذا الموقف فإن النمذجة النظرية المنجزة لتبيان تحليل اللغة المكتوبة يمكن تعميمها بشرط وضع تغييرات طفيفة في مجال اللغة المنطوقة.

 

وسوف نطلع في هذا المؤلّف على أن تلك المسلمة خاطئة، وأن دراسة الكلام المنطوق يتطلب مناهج وإطارا نظريا محدد المعالم غير قابل للتمثل مع تلك التي أنجزت في مجال تحليل الخطاب الكتابي. ويظهر بوضوح في يومنا هذا أن مصدر هذه المسلمة يكمن في اهتمام علماء النفس المختصين في الكلام كان منصبا على الجوانب "التصورية"  لإنتاج )القصد التواصلي( وإدراك )الفهم بحصر معناه( الكلام، بدلا من التركيز على سيرورة الالتقاء (processus d'interface) التي تمكننا للتعبير عن أفكارنا أو لفهم أفكار الآخرين بواسطة الكلام. والسيرورات التي تهمنا في هذا السياق هي تلك المتعلقة خاصة بتحليل القول، وليس تلك المستقلة نسبيا عن صيغة التعبير اللغوي. ولهذا السبب سنتحدث عن إدراك أو التعرف على الكلمات أو الجمل، بدلا عن فهم أو تأويل باعتبار أن تحليل كلمة أو جملة يؤدي إلى بناء تمثل دلالي مجرد من الصنف اللاصيغي (amodal)، أي مستقل عن الكيفية الحسية (modalité sensorielle) بادئ ذي بدء.

 

فإن يسر وفعالية سيرورة الالتقاء التي هي في صميم موضوع هذا المؤلف، قد أخفت منذ زمن بعيد تعقيداتها العجيبة ودقتها، بحيث أصبحت دراستها لا تقدم نفعا علميا. ويبدو صحيحا كذلك، كما سجله جورج ميلير G. Miller عند تقديمه لكتاب الكلام والتواصل (1963) بأن مؤلفا يركز على الجوانب الجزيئية (aspects moléculaires) للإدراك والأصواتية قد يثبط همة القارئ الذي تعود على الاعتقاد بأن الكلام مسالة سحرية وذاتيةوأضافبصفة موجزة أن تبني المقاربة التجزيئية تؤدي إلى معرفة أفضل لــ"عما نتكلم". رغم مرور نصف قرن على نشر مؤلفه، تظل فكرة مبلير صحيحة في الأساس.

        

وللتركيز ومن الآن على الدراسة المنفصلة لتحليل الكلام المنطوق، يمكن أن نحيل إلى بعض الاختلافات المبدئية جدا التي تتقابل فيها كيفية تحليله وصيغة الكتابة )راجع في هذا الشأن سيكي Segui 1994 وفيريرا Ferreira وآن  (Anes.

 

وقد ينتج أول اختلاف في حالة قراءة نص كتابي بحيث يمكن للقارئ أن يدرك السرعة التي تعالج بها المعلومة، كما تمكنه من الرجوع إلى الوراء للتحقق من بعض مجالات تحليلها، ولكن في حالة تحليل الكلام المنطوق فإن المستمع لا يستطيع أن يرصد تلك الإمكانيات المتاحة للقارئ. عندما نكون في وضعية مستمع لا يمكننا في الغالب أن ندرك سرعة التعبير للمتكلم )وخاصة عندما يتعلق الأمر ببرنامج إذاعي!(، وفي حالة تقديم مقولة، ليس باستطاعتنا "الرجوع إلى الوراء" لأن الخاصية الأساسية للقول هي أنه ذو طبيعة وقتية ومتلاشية. فمعرفتنا للكلام المنطوق ممكنة في "الوقت الحقيقي"، أي تباعا في حالة حدوثه المادي، وهذه القدرة تنبع من قدراتنا على الحفظ، لأنه عندما نستمع إلى مقولة ما ينبغي إدماج أجزاء منه حتى ولو كانت متباعدة في التسلسل.

ويتعلق الاختلاف المهم الثاني بالكيفية التي تمثل لنا بها الوحدات الدالة (unités significatives) أو الكلمات بصفتنا قرّاء أو مستمعون. أما في النص الكتابي فالكلمات منفصلة تماما بفراغ أبيض، ولكن ليس هناك علامة إصغائية (marque acoustique) محددة تبين في إشارة الكلام الحدود بين الكلمات.

 

فينتج الاختلاف الثالث، وهو هذه المرة في "صالح" القول، من وفرة المعلومات التطريزية (informations prosodiques)  التي لا وجود لها إلا في الكلام المنطوق. فالتأويلات المختلفة لنفس المتعاقبة الكلمات يمكن إرسالها بصفة طبيعية بمؤشرات تطريزية متعددة، ولكن ينبغي على قارئ نص أن "يعد" هذه التأويلات المختلفة بنجاح تقريبي انطلاقا من ترميز (encodage) الشكل الصواتي الكامن خلف النص.فاستعمال هذا التطريز في الجمل ذات البنية الغامضة واضح بوجه خاص، أي أن الجمل التي تختلف حسب حالة تأليف الكلمات. إن وجود  علامات تطريزية في هذا النوع من المقولات يمكن عامة من إزالة الغموض المحتمل.

 

وانطلاقا مما سبق، يتجلى بوضوح أن دراسة تحليل الكلام المنطوق يتطلب استعمال طرق التقصي و منهجة نظرية خاصة مختلفة تماما عن تلك التي تستعمل في دراسة الكتابي.

وسوف نتعاطى في هذا المؤلف إلى دراسة الكلام المنطوق من وجهة نظر اللسانيات السيكولوجية الإدراكية. وفي إطار هذه المادة، ليس هدف هذا البحث هو دراسة "السلوك" الشفهي في حد ذاته ولكن الآليات والتصورات الذهنية التي تنتج عن ذلك السلوك وتجعله ممكنا. فدراسة السلوك الشفهي و تعثر سيرها المحتمل ينبغي تناوله بصفته "وسيلة" بإمكانها أن تقيم استدلالا (inférence) على الاستعداد الذي نتوفر عليه بصفتنا كائنات بشرية بإنتاج وإدراك الكلام المنطوق. إن دراسة ذلك الاستعداد هو الذي يهمنا بالدرجة الأولى.

 

فالمعطيات والتأويلات التي سوف نحيل إليها لها علاقة أساسية باللسانيات السيكولوجية التجريبية. ككل المواد العلمية فإن هدف اللسانيات السيكولوجية هو تركيب نظرية موحدة لموضوع الدراسة، أي لقدرة الكائنات البشرية لاستيعاب واستعمال الكلام. ولبلوغ هذا الهدف، ينبغي عليها أن تأخذ بعين الاعتبار معطيات الأطر النظرية للمواد الأخرى، وعلى وجه الخصوص اللسانيات. وبالتالي فالتساؤل على الإواليات والتصورات الذهنية التي تحكم قدرات إنتاج وإدراك الكلام المنطوق لا يمكن أن تتم خارج نطاق دراسة السيرورات والبنى الدماغية المستخدمة. إن تطور طرق المِصورة  الوظيفية تفتح في هذا المجال بالذات آفاقا سوف نركز عليها لاحقا وبصفة تكرارية.

 

ولندرك قدرات الكائنات البشرية المنتمية إلى نفس المجموعة اللغوية  للتواصل بفعالية بواسطة الكلام، ينبغي أن تعزا إلى متكلمي هذه المجموعة معرفة دقيقة وخاصة بلغتهم. فتمييز هذه المعرفة أو "القدرة النحوية" للمتكلمين تمثل موضوع اللسانيات بعينه، وسنبحث هذا التمييز في الجزء الأول من الفصل II  من هذا المؤلف. أما في الجزء الثاني من نفس الفصل سنقدم الترسيمة العامة للبنى والإجراءات للتحليل المتدخلة في إنتاج وإدراك الكلام المنطوق.

 

إن طبيعة الجد الخاصة لقدرة الكلام توحي بأنها راسخة بقوة في الجهاز البيولوجي البشري. سنبحث إذن في الفصل III بعض البراهين في معرض الأسس البيولوجية لملكة اللغة. سنبين بوجه خاص بأن سيرورات إدراك و إنتاج الكلام المنطوق تستعمل بنى دماغية خاصة ومترابطة  بقوة.

 

ويبحث الفصل IV  الجوانب التصويتية لإنتاج الكلام. فوصف  الخاصيات التشريحية والفيزيولوجية لجهاز التصويت (système de phonaltion) ستتبع بتحليل الآليات التلفظية  لإنتاج أنواع مختلفة من أصوات الكلام.

وفي مجال إنتاج الكلام، يمثل إنتاج الوحدات الدالة أو الكلمات الالتقاء الأساسي بين التصور والتلفظ. يستعرض الفصل V المراحل الرئيسية المسؤولة في عملية إنتاج الكلام المنطوق. سنبحث في الفصل الطرق المستعملة لدراسة إنتاج الكلمات، وكذلك المعطيات التجريبية  التي تمكن من التعاطي مع مختلف الافتراضات النظرية المقدمة في هذا المجال.

 

أما الفصل VI فقد كرس إلى الترميز (encodage) شكلي-صواتي  للكلمات. والمقصود في هذا الفصل بحث الإجراءات المستعملة من لدن المتكلم لضم إلى تصور مجرد لكلمة الشكل الصّواتي الملائم.

         وأما إنتاج المقولات الملائمة لإنجاز الجمل فستبحث في الفصل VII.

 

وفي الفصل VIII سنحلل بادئ ذي بدء الخاصيات الرئيسية لإشارة الكلام، وكذلك خاصيات الجهاز السمعي المسؤولة عن تحليله. وبعد ذلك سيتم تحليل الإشكاليات الرئيسية لإدراك القول في حد ذاته. ويبين الجزء الأخير من هذا الفصل أن التنظيم الصّواتي للغة المتكلم يحدد بقوة إجراءات إدراك أصوات القول.

 

سيكرَّس الفصل IX  إلى دراسة التعرف على الكلمات المنطوقة.  وستبحث النماذج الرئيسية المقدمة في هذا المجال بالمقارنة مع قدرتها على تفسير سيرورات تقطيع (segmentation) الكلام الامتدادي والتعرف على الكلمات البسيطة والمعقدة.

 

إن دور التنظيم التطريزي للمقولات سيتم بحثه في الفصل X. وخصوصا العلاقة بين التنظيم التركيبي والتنظيم التطريزي التي سوف تناقش في إطار تحليل المقولات ذات البنية الغامضة  )الملتبسة(.

وفي الفصل الأخير فينصب على دراسة العلاقة بين إنتاج وإدراك الكلام المنطوق. وهذا الفصل سيبرز بالنسبة لمختلف مستويات التحليل توازي إجراءات التحليل المتدخلة في إنتاج وإدراك القول.  

 



11/10/2010
0 Poster un commentaire

A découvrir aussi


Ces blogs de Littérature & Poésie pourraient vous intéresser

Inscrivez-vous au blog

Soyez prévenu par email des prochaines mises à jour

Rejoignez les 50 autres membres